الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن ***
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40) وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)} لما تقدم تكذيب قريش والكفار لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر تعالى ما فيه تسلية للرسول وإرهاب للمكذبين وتذكير لهم أن يصيبهم ما أصاب الأمم السابقة من هلاك الاستئصال لما كذبوا رسلهم، فناسب أن ذكر أولاً من نزل عليه كتابه جملة واحدة ومع ذلك كفروا وكذبوا به فكذلك هؤلاء لو نزل عليه القرآن دفعة لكذبوا وكفروا كما كذب قوم موسى. و {الكتاب} هنا التوراة و{هارون} بدل أو عطف بيان، واحتمل أن يكون معه المفعول الثاني لجعلنا. وأن يكون {وزيراً} والوزارة لا تنافي النبوة فقد كان في الزمان الواحد أنبياء يوازر بعضهم بعضاً، والمذهوب إليهم القبط وفرعون. وفي الكلام حذف أي فذهبا وأديا الرسالة فكذبوهما {فدمرناهم} والتدمير أشد الإهلاك وأصله كسر الشيء على وجه لا يمكن إصلاحه. وقصة موسى ومن أرسل إليه ذكرت منتهية في غير ما موضع وهنا اختصرت فأوجز بذكر أولها وآخرها لأنه بذلك يلزم الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم. وقرأ عليّ والحسن ومسلمة بن محارب: فدمراهم على الأمر لموسى وهارون، وعن عليّ أيضاً: كذلك إلاّ أنه مؤكد بالنون الشديدة. وعنه أيضاً فدمرا أمراً لهما بهم بباء الجر، ومعنى الأمر كوناً سبب تدميرهم. وانتصب {وقوم نوح} على الاشتغال وكان النصب أرجح لتقدم الجمل الفعلية قبل ذلك، ويكون {لما} في هذا الإعراب ظرفاً على مذهب الفارسي. وأما إن كانت حرف وجوب لوجوب فالظاهر أن {أغرقناهم} جواب لما فلا يفسر ناصباً لقوم فيكون معطوفاً على المفعول في {فدمرناهم} أو منصوباً على مضمر تقديره اذكر. وقد جوز الوجوه الثلاثة الحوفي. {لما كذبوا الرسل} كذبوا نوحاً ومن قبله أو جعل تكذيبهم لنوح تكذيباً للجميع، أو لم يروا بعثه الرسل كالبراهمة والظاهر عطف {وعاداً} على و{قوم}. وقال أبو إسحاق: يكون معطوفاً على الهاء والميم في {وجعلناهم للناس آية}. قال: ويجوز أن يكون معطوفاً على {الظالمين} لأن التأويل وعدنا الظالمين بالعذاب ووعدنا {عاداً وثموداً}. وقرأ عبد الله وعمرو بن ميمون والحسن وعيسى وثمود غير مصروف. {وأصحاب الرس}. قال ابن عباس: هم قوم ثمود ويبعده عطفه على ثمود لأن العطف يقتضي التغاير. وقال قتادة: أهل قرية من اليمامة يقال لها الرس والفلج. قيل: قتلوا نبيهم فهلكوا وهم بقية ثمود وقوم صالح. وقال كعب ومقاتل والسدّي بئر بإنطاكية الشام قتل فيها صاحب ياسين وهو حبيب النجار. وقيل: قتلوا نبيهم ورسوه في بئر أي دسوه فيه. وقال وهب والكلبي {أصحاب الرس} وأصحاب الأيكة قومان أرسل إليهما شعيب أرسل إلى أصحاب الرس وكانوا قوماً من عبَدة الأصنام وأصحاب آبار ومواش، فدعاهم إلى الإسلام فتمادوا في طغيانهم وفي إيذائه فبينما هم حول الرس وهي البئر غير المطوية. وعن أبي عبيدة انهارت بهم فخسف بهم وبدارهم. وقال عليّ فيما نقله الثعلبي: قوم عبدوا شجرة صنوبر يقال لها شاه درخت رسوا نبيهم في بئر حفروه له في حديث طويل. وقيل: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حنظلة بن صفوان كانوا مبتلين بالعنقاء وهي أعظم ما يكون من الطير، سميت بذلك لطول عنقها وكانت تسكن جبلهم الذي يقال له فج وهي تنقض على صبيانهم فتخطفهم إن أعوزها الصيد فدعا عليها حنظلة فأصابتها الصاعقة ثم إنهم قتلوا حنظلة فأهلكوا. وقيل: هم أصحاب الأخدود والرس هو الأخدود. وقال ابن عباس: الرس بئر أذربيجان. وقيل: الرس ما بين نجران إلى اليمن ألى حضرموت. وقيل: قوم بعث الله إليهم أنبياء فقتلوهم ورسوا عظامهم في بئر. وقيل: قوم بعث إليهم نبيّ فأكلوه. وقيل: قوم نساؤهم سواحق. وقيل: الرس ماء ونخل لبني أسد. وقيل: الرس نهر من بلاد المشرق بعث الله إليهم نبياً من أولاد يهوذا ابن يعقوب فكذبوه فلبث فيهم زماناً فشكا إلى الله منهم فحفروا له بئراً وأرسلوه فيها، وقالوا: نرجو أن يرضى عنا إلهنا فكانوا عامة يومهم يسمعون أنين نبيهم، فدعا بتعجيل قبض روحه فمات وأضلتهم سحابة سوداء أذابتهم كما يذوب الرصاص. وروى عكرمة ومحمد بن كعب القرظي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم «أن أهل الرس أخذوا نبيهم فرسّوه في بئر وأطبقوا عليه صخرة فكان عبد أسود آمن به يجيء بطعام إلى تلك البئر فيعينه الله على تلك الصخرة فيقلها فيعطيه ما يغذيه به. ثم يرد الصخرة، إلى أن ضرب الله يوماً على أذن ذلك الأسود بالنوم أربع عشرة سنة وأخرج أهل القرية نبيهم فآمنوا به» في حديث طويل. قال الطبري: فيمكن أنهم كفروا بعد ذلك فذكرهم الله في هذه الآية وكثر الاختلاف في أصحاب الرس، فلو صح ما نقله عكرمة ومحمد بن كعب كان هو القول الذي لا يمكن خلافه وملخص هذه الأقوال أنهم قوم أهلكهم الله بتكذيب من أرسل إليهم. {وقروناً بين ذلك} هذا إبهام لا يعلم حقيقة ذلك إلاّ الله {ذلك} إشارة إلى أولئك المتقدمي الذكر فلذلك حسن دخول {بين} عليه من غير أن يعطف عليه شيء كأنه قيل بين المذكورين وقد يذكر الذاكر أشياء مختلفة. ثم يشير إليها. وانتصب {كلاً} الأول على الاشتغال أي وأنذرنا كلاً أو حذرنا كلاً والثاني على أنه مفعول بتبرنا لأنه لم يأخذ مفعولاً وهذا من واضح الإعراب. ومعنى ضرب الأمثال أي بيّن لهم القصص العجيبة من قصص الأولين ووصفنا لهم ما أدى إليه تكذيبهم بأنبيائهم من عذاب الله وتدميره إياهم ليهتدوا بضرب الأمثال فلم يهتدوا وأبعد من جعل الضمير في {له} لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والمعنى وكل الأمثال ضربنا للرسول وعلى هذا و{كلاً} منصوب بضربنا و{الأمثال} بدل من {كلاً} والضمير في {ولقد أتوا} لقريش كانوا يمرون على سدوم من قرى قوم لوط في متاجرهم إلى الشام وكانت قرى خمسة أهلك الله منها أربعاً وبقيت واحدة وهي زغر لم يكن أهلها يعملون ذلك العمل قاله ابن عباس و{مطر السوء} الحجارة التي أمطرت عليهم من السماء فهلكوا. وكان إبراهيم عليه السلام ينادي نصيحة لكم: يا سدوم يوم لكم من الله عز وجل أنهاكم أن تتعرضوا للعقوبة من الله، ومعنى {أتوا} مروا فلذلك عداه بعلى. وأفرد لفظ القرية وإن كانت قرى لأن سدوم هي أم تلك القرى وأعظمها. وقال مكي: الضمير في {أتوا} عائد على الذين اتخذوا القرآن مهجوراً انتهى. وهم قريش وانتصب {مطر} على أنه مفعول ثان لأمطرت على معنى أوليت، أو على أنه مصدر محذوف الزوائد أي إمطار السوء. {أفلم يكونوا يرونها} أن ينظرون إلى ما فيها من العبر والآثار الدالة على ما حل بها من النقم كما قال {وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل} وقال {وإنهما لبإمام مبين} وهو استفهام معناه التعجب ومع ذلك فلم يعتبروا برؤيتها أن يحل بهم في الدنيا ما حل بأولئك، بل كانوا كفرة لا يؤمنون بالبعث فلم يتوقعوا عذاب الآخرة وضع الرجاء موضع التوقع لأنه إنما بتوقع العاقبة من يؤمن، فمن ثم لم ينظروا ولم يتفكروا ومروا بها كما مرت ركابهم، أو لا يأملون {نشوراً} كما يأمله المؤمنون لطمعهم إلى ثواب أعمالهم أو لا يخافون على اللغة التهامية. وقرأ زيد بن عليّ مطرت ثلاثي مبنياً للمفعول ومطر متعد. قال الشاعر: كمن بواديه بعد المحل ممطور *** وقرأ أبو السماك {مطر السوء} بضم السين. {وإذا رأوك أن يتخذونك إلاّ هزوا} لم يقتصر المشركون على إنكار نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام وترك الإيمان به، بل زادوا على ذلك بالاستهزاء والاحتقار. حتى يقول بعضهم لبعض {أهذا الذي بعث الله رسولاً} و{أن} نافية جواب {إذا} وانفردت {إذا} بأنه إذا كان جوابها منفياً بما أو بلا لا تدخله الفاء بخلاف أدوات الشرط غيرها فلا بد من الفاء مع ما ومع لا إذا ارتفع المضارع، فلو وقعت إن النافية في جواب غير إذا فلا بد من الفاء كما النافية ومعنى {هزؤاً} موضع هزء أو مهزواً به {أهذا} قبله قول محذوف أي يقولون وقال: جواب {إذا} ما أضمر من القول أي {وإذا رأوك} قالوا {أهذا الذي بعث الله رسولاً} و{أن يتخذونك} جملة اعتراضية بين {إذا} وجوابها. قيل: ونزلت في أبي جهل كان إذا رأى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أهذا الذي بعث الله رسولاً}؟ وأخبر بلفظ الجمع تعظيماً لقبح صنعه أو لكون جماعة معه قالوا ذلك: والظاهر أن قائل ذلك جماعة كثيرة وهذا الاستفهام استصغار واحتقار منهم أخرجوه بقولهم بعث الله رسولاً في معرض التسليم والإقرار وهم على غاية الجحود والإنكار سخرية واستهزاء، ولو لم يستهزئوا لقالوا هذا زعم أو ادعى أنه مبعوث من عند الله رسولاً. وقولهم {إن كاد ليضلنا} دليل على فرط مجاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعوتهم، وبذله قصارى الوسع والطاقة في استعطافهم مع عرض الآيات والمعجزات حتى شارفوا بزعمهم أن يتركوا دينهم إلى دين الإسلام لولا فرط لجاجهم واستمساكهم بعبادة آلهتهم. و{لولا} في مثل هذا الكلام جار من حيث المعنى لا من حيث اللفظ مجرى التقييد للحكم المطلق قاله الزمخشري. وقال أبو عبد الله الرازي: الاستهزاء إما بالصورة فكان أحسن منهم خلقة أو بالصفة فلا يمكن لأن الصفة التي تميز بها عنهم ظهور المعجز عليه دونهم، وما قدروا على القدح في حجته ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم ثم لوقاحتهم قلبوا القصة واستهزؤوا بالرسول عليه الصلاة والسلام انتهى. قيل: وتدل الآية على أنهم صاروا في ظهور حجته عليه الصلاة والسلام عليهم كالمجانين استهزوؤا به أولاً ثم إنهم وصفوه بأنه {كاد ليضلنا} عن مذهبنا {لولا} أنا قابلناه بالجمود والإصرار فهذا يدل على أنهم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل، فكونهم جمعوا بين الاستهزاء وبين هذه الكيد ودة دل على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره تارة يستهزئون منه وتارة يصفونه بما لا يليق إلاّ بالعالم الكامل. {وسوف يعلمون} وعيد ودلالة على أنهم لا يفوتونه وإن طالت مدة الإمهال فلا بد للوعيد أن يلحقهم فلا يغرنهم التأخير، ولما قالوا {إن كاد ليضلنا} جاء قوله {من أضل سبيلاً} أي سيظهر لهم من المضل ومن الضال بمشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه. والظاهر أن من استفهامية وأضل خبره والجملة في موضع مفعول {يعلمون} إن كانت متعدية إلى واحد أو في موضع مفعولين إن كانت تعدت إلى اثنين، ويجوز أن تكون {من} موصولة مفعولة بيعلمون و{أضل} خبر مبتدأ محذوف أي هو أضل، وصار حذف هذا المضمر للاستطالة التي حصلت في قول العرب ما أنا بالذي قائل لك سواء. {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} هذا يأس عن إيمانهم وإشارة إليه عليه السلام أن لا يتأسف عليهم، وإعلام أنهم في الجهل بالمنافع وقلة النظر في العواقب مثل البهائم ثم ذكر أنهم {أضل سبيلاً} من الأنعام من حيث لهم فهم وتركوا استعماله فيما يخلصهم من عذاب الله. والأنعام لا سبيل لها إلى فهم المصالح. و{أرأيت} استفهام تعجب من جهل من هذه الحالة و{إلهه} المفعول الأول لاتخذ، و{هواه} الثاني أي أقام مقام الإله الذي يعبده هواه فهو جار على ما يكون في {هواه} والمعنى أنه لم يتخذ إلهاً إلا هواه وادعاء القلب ليس بجيد إذ يقدره من اتخذ هواه إلهه والبيت من ضرائر الشعر ونادر الكلام فينزه كلام الله عنه كان الرجل يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه وأخذ الأحسن. قيل: نزلت في الحارث بن قيس السهمي، كان إذا هوى شيئاً عبده، والهوى ميل القلب إلى الشيء أفأنت تجبره على ترك هواه، أو أفأنت تحفظه من عظيم جهله. وقرأ بعض أهل المدينة من اتخذ آلهةً منونة على الجمع، وفيه تقديم جعل هواه أنواعاً أسماء لأجناس مختلفة فجعل كل جنس من هواه إلهاً آخر. وقرأ ابن هرمز: إلاهة على وزن فعالة وفيه أيضاً تقديم أي هواه إلاهة بمعنى معبود لأنها بمعنى المألوهة. فالهاء فيها للمبالغة فلذلك صرفت. وقيل: بل الإلاهة الشمس ويقال لها أُلاهة بضم الهمزة وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث لكنها لما كانت مما يدخلها لام المعرفة في بعض اللغات صارت بمنزلة ما كان فيه اللام ثم نزعت فلذلك صرفت وصارت بمنزلة النعوت فتنكرت قاله صاحب اللوامح. ومفعول {أرأيت} الأول هو {من} والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني. وتقدم الكلام في {أرأيت} في أوائل الأنعام ومعنى {وكيلاً} أي هل تستطيع أن تدعو إلى الهدى فتتوكل عليه وتجبره على الإسلام. و{أم} منقطعة تتقدّر ببل والهمزة على المذهب الصحيح كأنه قال: بل أتحسب كان هذه المذمّة أشد من التي تقدمتها حتى حفت بالإضراب عنها إليها وهو كونها مسلوبي الأسماع والعقول لأنهم لا يلقون إلى استماع الحق أذناً إلى تدبره عقلاً، ومشبهين بالأنعام التي هي مثل في الغفلة والضلالة، ونفى ذلك عن أكثرهم لأن فيهم من سبقت له السعادة فأسلم، وجعلوا أضل من الأنعام لأنها تنقاد لأربابها وتعرف من يحسن إليها ممن يسيء إليها وتطلب منفعتها وتتجنب مضرّتها وتهتدي إلى مراعيها ومشاربها، وهم لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم ولا يرغبون في الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار ولا يهتدون للحق.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50) وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)} لما بيِّن تعالى جهل المعترضين على دلائل الصانع وفساد طريقتهم ذكر أنواعاً من الدلائل الواضحة التي تدل على قدرته التامة لعلهم يتدبرونها ويؤمنون بمن هذه قدرته وتصرفه في عالمه، فبدأ بحال الظل في زيادته ونقصانه وتغيره من حال إلى حال وأن ذلك جار على مشيئته. وتقدم الكلام على {ألم تر} في البقرة في قصة الذي حاجّ إبراهيم. والمعنى {ألم تر إلى} صنع {ربك} وقدرته. و{كيف} سؤال عن حال في موضع نصب بمد. والجملة في موضع متعلق {ألم تر} لأن {تر} معلقة والجملة الاستفهامية التي هي معلق عنها فعل القلب ليس باقي على حقيقة الاستفهام. فالمعنى ألم تر إلى مدّ ربك الظل. وقال الجمهور: {الظل} هنا من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس مثل ظل الجنة ظل ممدود لا شمس فيه ولا ظلمة. واعترض بأنه في غير النهار بل في بقايا الليل ولا يسمى ظلاً. وقيل: {الظل} الليل لا ظل الأرض وهو يغمر الدنيا كلها. وقيل: من غيبوبة الشمس إلى طلوعها وهذا هو القول الذي قبله ولكن أورده كذا. وقيل: ظلال الأشياء كلها كقوله {أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤ ظلاله} وقال أبو عبيدة: {الظل} بالغداة والفيء بالعشي. وقال ابن السكيت: {الظل} ما نسخته الشمس والفيء ما نسخ الشمس. وقيل: ما لم تكن عليه الشمس ظل وما كانت عليه فزالت فيء. {ولو شاء لجعله ساكناً} قال ابن عباس وقتادة وابن زيد: كظل الجنة الذي لا شمس تذهبه. وقال مجاهد: لا تصيبه ولا تزول. وقال الحسن: {لو شاء} لتركه ظلاً كما هو. وقيل: لأدامه أبداً بمنع طلوع الشمس بعد غيبوبتها، فلما طلعت الشمس دلت على زوال الظل وبدا فيه النقصان فبطلوع الشمس يبدو النقصان في الظل، وبغروبها تبدو الزيادة في الظل فبالشمس استدل أهل الأرض على الظل وزيادته ونقصه، وكلما علت الشمس نقص الظل، وكلما دنت للغروب زاد وهو قوله {ثم قبضناه إلينا قبضاً يسيراً} يعني في وقت علو الشمس بالنهار ينقص الظل نقصاناً يسيراً بعد يسير وكذلك زيادته بعد نصف النهار يزيد يسيراً بعد يسير حتى يعم الأرض. كلها فأما زوال الظل كله فإنما يكون في البلدان المتوسطة في وقت. وقال الزمخشري: ومعنى {مد الظل} أن جعله يمتد وينبسط فينتفع به الناس. {ولو شاء لجعله ساكناً} أي لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر وغير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمي انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً ومعنى كون الشمس دليلاً أن الناس يستدلون بالشمس وبأحوالها في مسيرها على أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان وزائلاً ومتسعاً ومتقلصاً فيبنون حاجتهم إلى الظل واستغناءهم عنه على حسب ذلك. وقبضه إليه أن ينسخه بظل الشمس {يسيراً} أي على مهل وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لا يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً فإن قلت: ثم في هذين الموضعين كيف موقعها؟ قلت: موقعها البيان تفاضل الأمور الثلاثة كأن الثاني أعظم من الأول، والثالث أعظم من الثاني تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت. ووجه آخر وهو أنه بنى الظل حين بنى السماء كالقبة المضروبة ودحا الأرض تحتها فألقت القبة ظلها على الأرض لعدم النير. {ولو شاء الله لجعله ساكناً} مستقراً على تلك الحالة ثم خلق الشمس وجعله على ذلك الظل سلطها عليه وجعلها دليلاً متبوعاً لهم كما يتبع الدليل في الطريق فهو يزيد بها وينقص ويمتد ويقلص، ثم نسخه بها قبضه قبضاً سهلاً يسيراً غير عسير، ويحتمل أن يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه وهي الأجرام التي تلقي الظل فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه وقوله {قبضناه إلينا} يدل عليه وكذلك قوله {يسيراً} كما قال {ذلك حشر علينا يسير} انتهى وقوله: سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه لم يسم الله ذلك إنما قال كيف مد الظل وقوله: ويحتمل أن يريد قبضه عند قيامه الساعة فهذا يبعد احتماله لأنه إنما ذكر آثار صنعته وقدرته لتشاهد ثم قال {مد الظل} وعطف عليه ماضياً مثله فيبعد أن يكون التقدير ثم قبضه عند قيام الساعة مع ظهور كونه ماضياً مستداماً أمثاله. وقال ابن عطية: {ولو شاء لجعله ساكناً} أي ثابتاً غير متحرك ولا منسوخ، لكنه جعل الشمس ونسخها إياه بطردها له من موضع إلى موضع دليلاً عليه مبيناً لوجوده ولوجه العبرة فيه. وحكى الطبري: أنه لولا الشمس لم يعلم أن الظل شيء إذ الأشياء إنما تعرف بأضدادها. وقال ابن عباس: {يسيراً} معجلاً. وقال مجاهد لطيفاً أي شيئاً بعد شيء، ويحتمل أن يريد سهلاً قريب التناول. وقال أبو عبد الله الرازي: أكثر الناس في تأويل هذه الآية ويرفع الكلام فيها إلى وجهين. الأول: أن الظل لا ضوء خالص ولا ظلمة خالصة، وهو ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وكذلك الكيفيات الحاصلة داخل السقف وأبنية الجدارات، وهي أطيب الأحوال لأن الظلمة الخالصة يكرهها الطبع وينفر عنها الحس والضوء الخالص يحير الحس البصري ويحدث السخونة القوية وهي مؤذية، ولهذا قيل في الجنة {وظل ممدود} والناظر إلى الجسم الملون كأنه يشاهد بالظل شيئاً سوى الجسم وسوى اللون والظل ليس أمراً ثالثاً ولا معرفة به إلاّ إذا طلعت الشمس ووقع ضوءها على الجسم ثم مال عرف للظل وجود وماهية، ولولاها ما عرف لأن الأشياء تدرك بأضدادها، فظهر للعقل أن الظل كيفية زائدة على الجسم واللون ولذلك قال {ثم جعلنا الشمس عليه دليلاً} أي جعلنا الظل أولاً بما فيه من المنافع واللذات، ثم هدينا العقول إلى معرفة وجوده بأن أطلعنا الشمس فكانت دليلاً على وجود الظل. {ثم قبضناه} أي أزلناه لا دفعة بل {يسيراً} يسيراً كلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصان الظل من جانب المغرب، ولما كانت الحركات المكانية لا توجد دفعة بل يسيراً يسيراً كان زوال الأظلال كذلك. والثاني: أنه لما خلق السماء والأرض وقع السماء على الأرض فجعل الشمس دليلاً لأنه بحسب حركات الأضواء تتحرك الأظلال فهما متعاقبان متلازمان لا واسطة بينهما، فبمقدار ما يزداد أحدهما ينقص الآخر، فكما أن المهتدي يقتدي بالهادي والدليل ويلازمه فكذلك الأظلال ملازمة للأضواء، ولذلك جعل الشمس دليلاً عليه انتهى. ملخصاً وهو مأخوذ من كلام الزمخشري، ومحسن بعض تحسين. والآية في غاية الظهور ولا تحتاج إلى هذا التكثير. وقال أيضاً: {الظل} ليس عدماً محضاً بل هو أضواء مخلوطة بظلام، فهو أمر وجودي وفي تحقيقه دقيق يرجع فيه إلى الكتب العقلية انتهى. والآية في غاية الوضوح ولا تحتاج إلى هذا التكثير وقد تركت أشياء من كلام المفسرين مما لا تمس إليه الحاجة. {جعل الليل لباساً} تشبيهاً بالثوب الذي يغطي البدن ويستره من حيث الليل يستر الأشياء. والسبات: ضرب من الإغماء يعتري اليقظان مرضاً فشبه النوم به، والسبت الإقامة في المكان فكان السبات سكوناً تاماً والنشور هنا الإحياء شبه اليقظة به ليتطابق الإحياء مع الإماتة اللذين يتضمنهما النوم والسبات انتهى. ومن كلام ابن عطية وقال غيره: السبات الراحة جعل {النوم سباتاً} أي سبب راحة. وقال الزمخشري: السبات الموت وهو كقوله {وهو الذي يتوفاكم بالليل} فإن قلت: هلا فسرته بالراحة؟ قلت: النشور في مقابلته يأباه انتهى. ولا يأباه إلاّ لو تعين تفسير النشور بالحياة. وقال أبو مسلم {نشوراً} هو بمعنى الانتشار والحركة. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالنشور وقت انتشار وتفرق لطلب المعاش وابتغاء فضل الله. و{النهار نشوراً} وما قبله من باب ليل نائم ونهار صائم، وهذه الآية مع دلالتها على قدرة الخالق فيها إظهار لنعمته على خلقه، لأن الاحتجاب بستر الليل كم فيه لكثير من الناس فوائد دينية ودنيوية. وقال الشاعر: وكم لظلام الليل عندي من يد *** تخبر أن المانوية تكذب والنوم واليقظة وشبههما بالموت والحياة أي عبرة فيهما لمن اعتبر. وعن لقمان أنه قال لابنه: يا بني كما تنام فتوقظ فكذلك تموت فتنشر. وتقدم الخلاف في قراءة الريح بالإفراد والجمع في البقرة. قال ابن عطية: وقراءة الجمع أوجه لأن عرف الريح متى وردت في القرآن مفردة فإنما هي للعذاب، ومتى كانت للمطر والرحمة فإنما هي رياح لأن ريح المطر تتشعب وتتداءب وتتفرّق وتأتي لينة ومن ههنا وههنا وشيئاً اثر شيء، وريح العذاب خرجت لاتتداءب وإنما تأتي جسداً واحداً. ألا ترى أنها تحطم ما تجد وتهدمه. قال الرماني: جمعت رياح الرحمة لأنها ثلاثة لواقح: الجنوب، والصبا، والشمال. وأفردت ريح العذاب لأنها واحدة لا تلقح وهي الدبور. قال أي ابن عطية: يرد هذا قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: إذا هبت الريح: «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً» انتهى. ولا يسوغ أن يقال: هذه القراءة أوجه لأنه كلاً من القراءتين متواتر والألف واللام في الريح للجنس فتعم، وما ذكر من أن قول الرماني يرده الحديث فلا يظهر لأنه يجوز أن يريد بقوله عليه السلام: «رياحاً» الثلاثة اللواقح وبقوله «ولا تجعلها ريحاً» الدبور. فيكون ما قاله الرماني مطابقاً للحديث على هذا المفهوم. وتقدم الخلاف في قراءة {نشراً} وفي مدلوله في الأعراف {بين يدي رحمته} استعارة حسنة أي قدام المطر لأنه يجيء معلماً به. والطهور فعول إما للمبالغة كنؤوم فهو معدول عن طاهر، وإما أن يكون اسماً لما يتطهر به كالسحور والفطور، وإما مصدر لتطهر جاء على غير المصدر حكاه سيبويه. والظاهر في قوله {ماء طهوراً} أن يكون للمبالغة في طهارته وجهة المبالغة كونه لم يشبه شيء بخلاف ما نبع من الأرض ونحوه فإنه تشوبه أجزاء أرضية من مقره أو ممره أو مما يطرح فيه، ويجوز أن يوصف بالاسم وبالمصدر. وقال ثعلب: هو ما كان طاهراً في نفسه مطهراً لغيره، فإن كان ما قاله شرحاً لمبالغته في الطهارة كان سديداً ويعضده {وينزل عليكم من السماء ماءً ليطهركم به} وإلاّ ففعول لا يكون بمعنى مفعل، ومن استعمال طهور للمبالغة قوله تعالى {وسقاهم ربهم شراباً طهوراً} وقال الشاعر: إلى رحج الأكفال غيد من الظبا *** عذاب الثنايا ريقهنّ طهور وقرأ عيسى وأبو جعفر {ميِّتاً} بالتشديد ووصف بلده بصفة المذكر لأن البلدة تكون في معنى البلد في قوله {فسقناه إلى بلد ميت} ورجح الجمهور التخفيف لأنه يماثل فعلاً من المصادر، فكما وصف المذكر والمؤنث بالمصدر فكذلك بما أشبهه بخلاف المشدد فإنه يماثل فاعلاً من حيث قبوله للثاء إلاّ فيما خص المؤنث نحو طامث. وقرأ عبد الله وأبو حيوة وابن أبي عبلة والأعمش وعاصم وأبو عمرو في رواية عنهما {ونَسقيه} بفتح النون ورويت عن عمر بن الخطاب. وقرأ يحيى بن الحارث الذماري {وأناسي} بتخفيف الياء. ورويت عن الكسائي {وأناسي} جمع إنسان في مذهب سيبويه. وجمع أنسي في مذهب الفراء والمبرد والزجاج، والقياس أناسيه كما قالوا في مهلبي مهالبة. وحكي أناسين في جمع إنسان كسرحان وسراحين، ووصف الماء بالطهارة وعلل إنزاله بالإحياء والسقي لأنه لما كان الأناسي من جملة ما أنزل له الماء وصف بالطهور وإكراماً له وتتميماً للنعمة عليه، والتعليل يقتضي أن الطهارة شرط في صحة ذلك كما تقول: حملني الأمير على فرس جواد لأصيد عليه الوحش. وقدم إحياء الأرض وسقي الأنعام على سقي الأناسي لأن حياتهم بحياة أرضهم وحياة أنعامهم، فقدم ما هو السبب في ذلك ولأنهم إذا وجدوا ما يسقي أرضهم ومواشيهم وجدوا سقياهم. ونكر الأنعام والأناسي ووصفا بالكثرة لأن كثيراً منهم لا يعيشهم إلا ما أنزل الله من المطر، وكذلك {لنحيي به بلدة ميتاً} يريد بعض بلاد هؤلاء المتباعدين عن مظانّ الماء بخلاف سكان المدن فإنهم قريبون من الأودية والأنهار والعيون فهم غنيون غالباً عن سقي ماء المطر، وخص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب لأن الطيور والوحش تبعد في طلب الماء فلا يعوزها الشرب بخلاف الأنعام فإنها قنية الأناسي ومنافعهم متعلقة بها فكان الإنعام عليهم بسقي أنعامهم كالإنعام بسقيهم. والضمير في {صرفناه} عائد على الماء المنزل من السماء، أي جعلنا إنزال الماء تذكرة بأن يصرفه عن بعض المواضع إلى بعض وهو في كل عام بمقدار واحد قاله الجمهور منهم ابن مسعود وابن عباس ومجاهد، فعلى هذا التأويل {إلا كفوراً} هو قولهم بالأنواء والكواكب قاله عكرمة. وقيل {كفوراً} على الإطلاق لما تركوا التذكر. وقال ابن عباس أيضاً: عائد على القرآن وإن لم يتقدم له ذكر لوضوح الأمر ويعضده {وجاهدهم به} لتوافق الضمائر، وعلى أنه للمطر يكون به للقرآن. وقال أبو مسلم: راجع إلى المطر والرياح والسحاب وسائر ما ذكر فيه من الأدلة. وقال الزمخشري: صرفنا هذا القول بين الناس في القرآن وفي سائر الكتب والصحف التي أنزلت على الرسل، وهو ذكر إنشاء السحاب وإنزال المطر ليتفكروا ويعتبروا ويعرفوا حق النعمة فيه ويشكروا، فأبى أكثرهم إلا كفران النعمة وجحودها وقلة الأكتراث بها. وقيل: صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة والأوقات المتغايرة وعلى الصفات المتفاوتة من وابل وطل وجود ورذاذ وديمة ورهام فأبوا إلا الكفور. وأن يقولوا مطرنا بنوء كذا ولا يذكروا رحمته وصنعته. وعن ابن عباس: ما من عام أقل مطراً من عام، ولكن الله قسم ذلك بين عباده على ما يشاء وتلا هذه الآية. ويروى أن الملائكة يعرفون عدد المطر ومقداره في كل عام لأنه لا يختلف، ولكن يختلف في البلاد وينتزع من ههنا جواب في تنكير البلدة والأنعام والأناسي كأنه قال: ليحيي به بعض البلاد الميتة، ونسقيه بعض الأنعام والأناسي وذلك البعض كثير انتهى. وقرأ عكرمة {صرَفناه} بتخفيف الراء. {ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً} لما علم تعالى ما كابده الرسول من أذى قومه أعلمه أنه تعالى لو أراد لبعث في كل قرية نذيراً فيخفف عنك الأمر ولكنه أعظم أجرك وأجلك إذ جعل إنذارك عاماً للناس كلهم، وخصك بذلك ليكثر ثوابك لأنه على كثرة المجاهدة يكون الثواب، وليجمع لك حسنات من آمن بك إذ أنت مؤسسها. {فلا تطع الكافرين} يعني كفار قريش فإنهم كانوا استمعوا إليه ورغبوا أن يرجع إلى دين آبائهم ويملكونه عليهم ويجمعون له مالاً عظيماً فنهاه تعالى عن طاعتهم حتى يظهر لهم أنه لا رغبة له في شيء من ذلك، لكن رغبته في الدعاء إلى الله والإيمان به. {وجاهدهم به} أي القرآن أو بالإسلام أو بالسيف أو بترك طاعتهم و{جهاداً} مصدر وصف بكبيراً لأنه يلزمه عليه السلام مجاهدة جميع العالم فهو جهاد كبير. و {مرج} خلط بينهما أو أفاض أحدهما في الآخر أو أجراهما أقوال، والظاهر أنه يراد بالبحرين الماء الكثير العذب والماء الكثير الملح. وقيل: بحران معينان. فقيل: بحر فارس، وبحر الروم. وقيل: بحر السماء وبحر الأرض يلتقيان في كل عام قاله ابن عباس. وقال مجاهد: مياه الأنهار الواقعة في البحر الأجاج وهذا قريب من القول الأول. قال ابن عطية: والمقصد بالآية التنبيه على قدرة الله وإتقان خلقه للأشياء في أن بث في الأرض مياهاً عذبة كثيرة من الأنهار والعيون والآبار وجعلها خلال الأجاج، وجعل الأجاج خلالها فترى البحر قد اكتنفته المياه العذبة في ضفتيه ويلقى الماء البحر في الجزائر ونحوها قد اكتنفه الماء الأجاج، والبرزخ والحجر ما حجز بينهما من الأرض والسد قاله الحسن. ويتمشى هذا على قول من قال أن {مرج} بمعنى أجرى. وقيل: البرزخ البلاد والقفار فلا يختلفان إلاّ بزوال الحاجز يوم القيامة. قال الأكثرون: الحاجز مانع من قدرة الله. قال الزجاج: فهما مختلطان في مرائي العين منفصلان بقدرة الله، وسواد البصرة ينحدر الماء العذب منه في دجلة نحو البحر، ويأتي المد من البحر فيلتقيان من غير اختلاط فماء البحر إلى الخضرة الشديدة، وماء دجلة إلى الحمرة، فالمستقي يغرف من ماء دجلة عندنا لا يخالطه شيء ونيل مصر في فيضه يشق البحر المالح شقاً بحيث يبقى نهراً جارياً أحمر في وسط المالح ليستقي الناس منه، وترى المياه قطعاً في وسط البحر المالح فيقولون: هذا ماء ثلج فيسقون منه من وسط البحر. وقرأ طلحة وقتيبة عن الكسائي {ملح} بفتح الميم وكسر اللام وكذا في فاطر. قال أبو حاتم وهذا منكر في القراءة. وقال أبو الفتح أراد مالحاً وحذف الألف كما حذفت من برد أي بارد. وقال أبو الفضل الرازي في كتاب اللوامح: هي لغة شاذة قليلة. وقيل: أراد مالح فقصره بحذف الألف فالمالح جائز في صفة الماء لأن الماء يوجد في الضفيان بأن يكون مملوحاً من جهة غيره، ومالحاً لغيره وإن كان من صفته أن يقال: ماء ملح موصوف بالمصدر أي ماء ذو ملح، فالوصف بذلك مثل حلف ونضو من الصفات. قال الزمخشري: فإن قلت: {حجراً محجوراً} ما معناه؟ قلت: هي الكلمة التي يقولها المتعوذ وقد فسرناها وهي ههنا واقعة على سبيل المجاز، كان كل واحد من البحرين متعوذ من صاحبه ويقول له {حجراً محجوراً} كما قال {لا يبغيان} أي لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة، فانتفاء البغي ثم كالتعوذ ههنا جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهي من أحسن الاستعارات وأشهدها على البلاغة انتهى. والظاهر أن {حجراً محجوراً} معطوف على {برزخاً} عطف المفعول على المفعول وكذا أعربه الحوفي، وعلى ما ذكره الزمخشري يكون ذلك على إضمار القول المجازي أي، ويقولان أي كل واحد منهما لصاحبه {حجراً محجوراً}. والظاهر عموم البشر وهم بنو آدم والبشر ينطلق على الواحد والجمع. وقيل: المراد بالنسب آدم وبالصهر حواء. وقيل: النسب البنون والصهر البنات و{من الماء} إما النطفة، وإما أنه أصل خلقة كل حي، والنسب والصهر يعمان كل قربى بين آدميين، فالنسب أن يجتمع مع آخر في أب وأم قرب ذلك أو بعد، والصهر هو نواشج المناكحة. وقال عليّ بن أبي طالب النسب ما لا يحل نكاحه والصهر قرابة الرضاع. وعن طاوس: الرضاعة من الصهر. وعن عليّ: الصهر ما يحل نكاحه والنسب ما لا يحل نكاحه. وقال الضحاك: الصهر قرابة الرضاع. وقال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم وعليّ لأنه جمعه معه نسب وصهر. قال ابن عطية: فاجتماعهما وكادة حرمة إلى يوم القيامة. {وكان ربك قديراً} حيث خلق من النطفة الواحدة بشراً نوعين ذكراً وأنثى. ولما ذكر دلائل قدرته وما امتن به على عباده من غرائب مصنوعاته ثبت بذلك أنه المستحق للعبادة لنفعه وضره بين فساد عقول المشركين حيث يعبدون الأصنام. والظاهر أن {الكافر} اسم جنس فيعم. وقيل: هو أبو جهل والآية نزلت فيه. وقال عكرمة {الكافر} هنا إبليس والظهير والمظاهر كالمعين والمعاون قاله مجاهد والحسن وابن زيد، وفعيل بمعنى مفاعل كثير والمعنى أن {الكافر} يعاون الشيطان على ربه بالعداوة والشريك. وقيل: معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هيناً مهيناً من قولهم: ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا يلتفت إليه، وهذا نحو قوله {أولئك لا خلاق لهم} الآية قاله الطبري. وقيل: {على ربه} أي معيناً على أولياء الله. وقيل: معيناً للمشركين على أن لا يوحد الله. {وما أرسلناك إلاّ مبشراً ونذيراً} سلّي نبيه بذلك أي لا تهتم بهم ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، وإنما أنت رسول تبشر المؤمنين بالجنة وتنذر الكفرة بالنار، ولست بمطلوب بإيمانهم أجمعين. ثم أمره تعالى أن يحتج عليهم مزيلاً لوجوه التهم بقوله {قل لا أسألكم عليه من أجر} أي لا أطلب مالاً ولا نفعاً يختص بي. والضمير في {عليه} عائد على التبشير والإنذار، أو على القرآن، أو على إبلاغ الرسالة أقوال. والظاهر في {إلاّ من شاء} أنه استثناء منقطع وقاله الجمهور. فعلى هذا قيل بعباده {لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً} فليفعل. وقيل: لكن من أنفق في سبيل الله ومجاهدة أعدائه فهو مسؤولي. وقيل: هو متصل على حذف مضاف تقديره: إلاّ أجر من اتخذ إلى ربه سبيلاً أي إلاّ أجر من آمن أي الأجر الحاصل لي على دعائه إلى الإيمان وقبوله، لأنه تعالى يأجرني على ذلك. وقيل: إلاّ أجر من آمن من يعني بالأجرة الإنفاق في سبيل الله أي لا أسألكم أجراً إلاّ الإنفاق في سبيل الله، فجعل الإنفاق أجراً. ولما أخبر أنه فطم نفسه عن سؤالهم شيئاً أمره تعالى تفويض أمره إليه وثقته به واعتماده عليه فهو المتكفل بنصره وإظهار دينه. ووصف تعالى نفسه بالصفة التي تقتضي التوكل في قوله {الحي الذي لا يموت} لأن هذا المعنى يختص به تعالى دون كل حي كما قال {كل شيء هالك إلاّ وجهه} وقرأ بعض السلف هذه الآية فقال: لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق، ثم أمره بتنزيهه وتمجيده مقروناً بالثناء عليه لأن التنزيه محله اعتقاد القلب والمدح محله اللسان الموافق للأعتقاد. وفي الحديث: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر. وهي الكلمتان الخفيفتان على اللسان الثقيلتان في الميزان». {وكفى به بذنوب عباده خبيراً} أراد أنه ليس إليه من أمور عباده شيء آمنوا أم كفروا، وأنه خبير بأحوالهم كاف في جزاء أعمالهم. وفي هذه الجملة تسلية للرسول ووعيد للكافر. وفي بعض الأخبار كفى بك ظَفراً أن يكون عدوك عاصياً وهي كلمة يراد بها المبالغة تقول: كفى بالعلم جمالاً. وكفى بالأدب مالاً، أي حسبك لا تحتاج معه إلى غيره لأنه خبير بأحوالهم قادر على مكافأتهم. ولما أمره بالتوكل والتسبيح وذكر صفة الحياة الدائمة ذكر ما دل على القدرة التامة وهو إيجاد هذا العالم. وتقدم الكلام في نظير هذا الكلام واحتمل {الذي} أن يكون صفة للحي الذي لا يموت. ويتعين على قراءة زيد بن عليّ {الرحمن} بالجر وأما على قراءة الجمهور {الرحمن} بالرفع فإنه يحتمل أن يكون {الذي} صفة للحي و{الرحمن} خبر مبتدأ محذوف. ويحتمل أن يكون {الذي} مبتدأ و{الرحمن} خبره. وأن يكون {الذي} خبر مبتدأ محذوف، و{الرحمن} صفة له. أو يكون {الذي} منصوباً على إضمار أعني ويجوز على مذهب الأخفش أن يكون {الرحمن} مبتدأ. و{فاسأل} خبره تخريجه على حد قول الشاعر: وقائلة خولان فانكح فتاتهم *** وجوزوا أيضاً في {الرحمن} أن يكون بدلاً من الضمير المستكن في {استوى}. والظاهر تعلق به بقوله {فاسال} وبقاء الباء غير مضمنة معنى عن. و{خبيراً} من صفات الله كما تقول: لقيت بزيد أسداً ولقيت بزيد البحر، تريد أنه هو الأسد شجاعة، والبحر كرماً. والمعنى أنه تعالى اللطيف العالم الخبير والمعنى {فاسأل} الله الخبير بالأشياء العالم بحقائقها. وقال ابن عطية: و{خبيراً} على هذا منصوب إما بوقوع السؤال، وإما على الحال المؤكدة. كما قال {وهو الحق مصدقاً} وليست هذه الحال منتقلة إذا الصفة العلية لا تتغير انتهى. وبني هذا الإعراب على أنه كما تقول: لو لقيت فلاناً للقيت به البحر كرماً أي لقيت منه. والمعنى {فاسأل الله} عن كل أمر وكونه منصوباً على الحال المؤكدة على هذا التقدير لا يصح إنما يصح أن يكون مفعولاً به، ويجوز أن تكون الباء بمعنى عن، أي {فاسأل} عنه {خبيراً} كما قال الشاعر: فإن تسألوني بالنساء فإنني *** بصير بأدواء النساء طبيب وهو قول الأخفش والزجاج. ويكون {خبيراً} ليس من صفات الله هنا، كأنه قيل: اسأل عن الرحمن الخبراء جبريل والعلماء وأهل الكتب المنزلة، وإن جعلت {به} متعلقاً بخبيراً كان المعنى {فاسأل} عن الله الخبراء به. وقال الكلبي معناه {فاسأل} خبيراً به و{به} يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، وذلك الخبير هو الله تعالى لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق ذلك فلا يعلمها إلاّ الله. وعن ابن عباس: الخبير جبريل وقدم لرؤوس الآي. وقال الزمخشري: الباء في {به} صلة سل كقوله {سأل سائل بعذاب} كما يكون عن صلته في نحو {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} أو صلة {خبيراً} به فتجعل {خبيراً} مفعولاً أي، فسل عنه رجلاً عارفاً يخبرك برحمته، أو فسل رجلاً خبيراً به وبرحمته، أو فسل بسؤاله خبيراً. كقولك، رأيت به أسداً أي رأيت برؤيته، والمعنى إن سألته وجدته خبيراً بجعله حالاً عن به تريد فسل عنه عالماً بكل شيء. وقيل: {الرحمن} اسم من أسماء الله مذكور في الكتب المتقدمة ولم يكونوا يعرفونه. فقيل: فسل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى يعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون: ما نعرف الرحمن إلاّ الذي في اليمامة يعنون مسيلمة، وكان يقال له رحمن اليمامة انتهى. {وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن} وكانت قريش لا تعرف هذا في أسماء الله غالطت قريش بذلك فقالت: إن محمداً يأمرنا بعبادة رحمن اليمامة نزلت {وإذا قيل لهم} و{ما} سؤال عن المجهول، فيجوز أن يكون سؤالاً عن المسمى به لأنهم ما كانوا يعرفونه بهذا الاسم، ويجوز أن يكون سؤالاً عن معناه لأنه لم يكن مستعملاً في كلامهم كما يستعمل الرحيم والرحوم والراحم، أو لأنهم أنكروا إطلاقه على الله قاله الزمخشري. والذي يظهر أنهم لما قيل لهم {اسجدوا للرحمن} فذكرت الصفة المقتضية للمبالغة في الرحمة والكلمة عربية لا ينكر وضعها، أظهروا التجاهل بهذه الصفة التي لله مغالطة منهم ووقاحة فقالوا: {وما الرحمن} وهم عارفون به وبصفته الرحمانية، وهذا كما قال فروعون {وما رب العالمين} حين قال له موسى: {إني رسول من رب العالمين} على سبيل المناكرة وهو عالم برب العالمين. كما قال موسى {لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلاّ رب السموات والأرض بصائر} فكذلك كفار قريش استفهموا عن {الرحمن} استفهام من يجهله وهم عالمون به، فعلى قول من قال: لم يكونوا يعرفون {الرحمن} إلاّ مسيلمة وعلى قول من قال: من لا يعرفون الرحمن إلاّ مسيلمة. فالمعنى أنسجد لمسيلمة وعلى قول من قال: لا يعرفون {الرحمن} بالكلية فالمعنى {أنسجد لما تأمرنا} من غير علم ببيانه. والقائل {اسجدوا} الرسول أو الله على لسان رسوله. وقرأ ابن مسعود والأسود بن يزيد وحمزة والكسائي يأمر بالياء من تحت أي يأمرنا محمد، والكناية عنه أو المسمى {الرحمن} ولا نعرفه. وقرأ باقي السبعة بالتاء خطاباً للرسول. ومفعول {تأمرنا} الثاني محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره يأمرنا سجوده نحو قولهم: أمرتك الخير. {وزادهم} أي هذا القول وهو الأمر بالسجود للرحمن {زادهم} ضلالاً يختص به مع ضلالهم السابق، وكان حقه أن يكون باعثاً على فعلي السجود والقبول. وقال الضحاك: سجد أبو بكر وعمر وعثمان وعليّ وعثمان بن مظعون وعمرو ابن غلسة، فرآهم المشركون فأخذوا في ناحية المسجد يستهزئون، فهذا المراد بقوله {وزادهم نفوراً} ومعنى {نفوراً} فراراً.
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)} لما جعلت قريش سؤالها عن اسمه الذي هو الرحمن سؤالاً عن مجهول نزلت هذه الآية مصرحة بصفاته التي تعرف به وتوجب الإقرار بألوهيته. ومناسبتها لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه خلق السموات والأرض وما بينهما، ووصف نفسه بالرحمن، وسألوا هم فيه عما وضع في السماء من النيرات وما صرف من حال الليل والنهار لبادروا بالسجود والعبادة للرحمن، ثم نبههم على مالهم به اعتناء تام من رصد الكواكب وأحوالها ووضع أسماء لها. والظاهر أن المراد بالبروج المعروفة عند العرب وهي منازل الكواكب السيارة وهي الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدي، والدلو، والحوت. سميت بذلك لشبهها بما شبهت به. وسميت بالبروج التي هي القصور العالية لأنها لهذه الكواكب كالمنازل لسكانها واشتقاق البرج من التبرج لظهوره. وقيل: البروج هنا القصور في الجنة. قال الأعمش. وكان أصحاب عبد الله يقرؤونها {في السماء} قصوراً. وقال أبو صالح: البروج هنا الكواكب العظام. قال ابن عطية: والقول بأنها قصور في الجنة تحط من غرض الآية في التنبيه على أشياء مدركات تقوم بها الحجة على كل منكر لله أو جاهل. والضمير في {فيها} الظاهر أنه عائد على {السماء}. وقيل: على البروج، فالمعنى وجعل في جملتها {سراجاً}. وقرأ الجمهور {سراجاً} على الإفراد وهو الشمس. وقرأ عبد الله وعلقمة والأعمش والأخوان سُرُجاً بالجمع مضموم الراء وهو يجمع الأنوار، فيكون خص القمر بالذكر تشريفاً. وقرأ الأعمش أيضاً والنخعي وابن وثاب كذلك بسكون الراء. وقرأ الحسن والأعمش والنخعي وعصمة عن عاصم {وقُمراً} بضم القاء وسكون الميم فالظاهر أنه لغة في القمر كالرشد والرشد والعرب والعرب. وقيل: جمع قمراء أي ليلة قمراء كأنه قال: وذا قمر منير لأن الليلة تكون قمراء بالقمر، فأضافه إليها ونظيره في بقاء حكم المضاف بعد سقوطه وقيام المضاف إليه مقامه قول حسان: بردى يصفق بالرحيق السلسل *** يريد ماء بردى. فمنيراً وصف لذلك المحذوف كما قال يصفق بالياء من تحت، ولو لم يراع المضاف لقال: تصفق بالتاء وقال {منيراً} أي مضيئاً ولم يجعله {سراجاً} كالشمس لأنه لا توقد له. وانتصب {خلفة} على الحال. فقيل: هو مصدر خلف خلفة. وقيل: هو اسم هيئة كالركبة ووقع حالاً اسم الهيئة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وهي الحالة التي يخلف عليها الليل والنهار كل واحد منهما الآخر. والمعنى جعلهما ذوي خلفة أي ذوي عقبة يعقب هذا ذاك وذاك هذا، ويقال الليل والنهار يختلفان كما يقال يعتقبان ومنه قوله {واختلاف الليل والنهار} ويقال: بفلان خلفة واختلاف إذا اختلف كثيراً إلى متبرزه ومن هذا المعنى قول زهير: بها العيس والآرام يمشين خلفة *** وقول الآخر يصف امرأة تنتقل من منزل في الشتاء إلى منزل في الصيف دأباً: ولها بالما طرون إذا *** أكل النمل الذي جمعا خلفة حتى إذا ارتفعت *** سكنت من جلق بيعا في بيوت وسط دسكرة *** حولها الزيتون قد ينعا وقيل {خلفة} في الزيادة والنقصان. وقال مجاهد وقتادة والكسائي: هذا أسود وهذا أبيض وهذا طويل وهذا قصير. {لمن أراد أن يذكر}. قال عمر وابن عباس والحسن: معناه {لمن أراد أن يذكر} ما فاته من الخير والصلاة ونحوه في أحدهما فيستدركه في الذي يليه. وقال مجاهد وغيره: أي يعتبر بالمصنوعات ويشكر الله تعالى على نعمه عليه في العقل والفكر والفهم. وقال الزمخشري: وعن أُبي بن كعب يتذكر والمعنى. لينظر في اختلافهما الناظر فيعلم أن لا بد لانتقالهما من حال إلى حال وتغيرهما من نافل ومغير، ويستدل بذلك على عظم قدرته ويشكر الشاكر على النعمة من السكون بالليل والتصرف بالنهار كما قال تعالى: {ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله} وليكونا وقتين للمتذكر والشاكر من فاته في أحدهما ورده من العبادة أتى به في الآخر. وقرأ النخعي وابن وثاب وزيد بن عليّ وطلحة وحمزة تذكر مضارع ذكر خفيفاً. ولما تقدم ذكر الكفار وذمهم جاء {لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً} ذكر أحوال المؤمنين المتذكرين الشاكرين فقال: {وعباد الرحمن} وهذه إضافة تشريف وتفضل، وهو جمع عبد. وقال ابن بحر: جمع عابد كصاحب وصحاب، وتاجر وتجار، وراجل ورجال، أي الذين يعبدونه حق عبادته. والظاهر أن {وعباد} مبتدأ و{الذين يمشون} الخبر. وقيل: أولئك الخبر و{الذين} صفة، وقوم من عبد القيس يسمون العباد لأن كسرى ملكهم دون العرب. وقيل: لأنهم تألهوا مع نصارى الحيرة فصاروا عباد الله. وقرأ اليماني: وعباد جمع عابد كضارب وضراب. وقرأ الحسن: وعُبَدُ بضم العين والباء. وقرأ السلمي واليماني {يُمشّون} مبنياً للمفعول مشدداً. والهون: الرفق واللين. وانتصب {هوناً} على أنه نعت لمصدر محذوف أي مشياً هوناً أو على الحال، أي يشمون هينين في تؤدة وسكينة وحسن سمت لا يضربون بأقدامهم ولا يخفقون بنعالهم أشراً وبطراً، ولذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق. وقال مجاهد: بالحلم والوقار. وقال ابن عباس: بالطاعة والعفاف والتواضع. وقال الحسن: حلماء إن جهل عليهم لم يجهلوا. وقال ابن عطية {هوناً} عبارة عن عيشهم ومدة حياتهم وتصرفاتهم، فذكر من ذلك المعظم لا سيما وفي الانتقال في الأرض هي معاشرة الناس وخلطتهم ثم قال {هوناً} بمعنى أمره هون أي ليس بخشن، وذهبت فرقة إلى أن {هوناً} مرتبط بقوله {يمشون على الأرض} أي إن المشي هو الهون، ويشبه أن يتأول هذا على أن يكون أخلاق ذلك الماشي {هوناً} مناسبة لمشيه فيرجع القول إلى نحو ما بينّا، وأما أن يكون المراد صفة المشي وحده فباطل، لأن رب ماش {هوناً} رويداً وهو ذنب أطلس. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتكفأ في مشيه كأنما يمشي في صبب. وهو عليه السلام الصدر في هذه الآية وقوله عليه السلام: «من مشى منكم في طمع فليمش رويداً» أراد في عمر نفسه ولم يرد المشي وحده ألا ترى أن المبطلين المتحلين بالدين تمسكوا بصورة المشي فقط حتى قال فيهم الشاعر: كلهم يمشي رويدا *** كلهم يطلب صيدا وقال الزهري: سرعة المشي تذهب ببهاء الوجه، يريد الإسراع الخفيف لأنه يخل بالوقار والخير في التوسط. وقال زيد بن أسلم: أنه رأى في النوم من فسر له {الذين يمشون على الأرض هوناً} بأنهم الذين لا يريدون أن يفسدوا في الأرض. وقال عياض بن موسى: كان عليه السلام يرفع في مشيه رجليه بسرعة وعَدْوِ خطوة خلاف مشية المختال، ويقصد سمته وكل ذلك برفق وتثبت دون عجلة كما قال: «إنما ينحط من صبب» وكان عمر يسرع جبلة لا تكلفاً. {وإذا خاطبهم الجاهلون} أي مما لا يسوغ الخطاب به {قالوا سلاماً} أي سلام توديع لا تحية كقول إبراهيم عليه السلام لأبيه {سلام عليك} قاله الأصم. وقال مجاهد: قولاً سديداً فهو منصوب بقالوا. وقيل: هو على إضمار فعل تقديره سلمنا {سلاماً} فهو جزء من متعلق الجملة المحكية. قال ابن عطية: والذي أقوله أن {قالوا} هو العامل في {سلاماً} لأن المعنى قالوا هذا اللفظ. وقال الزمخشري: تسلماً منكم فأقيم السلام مقام التسليم. وقيل: قالوا سداداً من القول يسلمون فيه من الأذى والإثم والمراد بالجهل السفه وقلة الأدب وسوء الرغبة من قوله: ألا لا يجهلن أحد علينا *** فنجهل فوق جهل الجاهلينا انتهى. وقال الكلبي: وأبو العالية نسختها آية القتال. وقال ابن عطية: وهذه الآية كانت قبل آية السيف فنسخ منها ما يخص الكفرة وبقي حكمها في المسلمين إلى يوم القيامة، وذكره سيبويه في هذه الآية في كتابه وما تكلم على نسخ سواه. ورجح به أنه المراد السلامة لا التسليم لأن المؤمنين لم يؤمروا قط بالسلام على الكفرة، والآية مكية فنسختها آية السيف. وفي التاريخ ما معناه أن إبراهيم بن المهدي كان منحرفاً عن عليّ بن أبي طالب فرآه في النوم قد تقدمه إلى عبور قنطرة، فقال له: إنما تَدَّعي هذا الأمر بامرأة ونحن أحق به منك، وكان حكى ذلك للمأمون قال: فما رأيت له بلاغة في الجواب كما يذكر عنه فقال له المأمون: فما أجابك به؟ قال: كان يقول لي سلاماً سلاماً، فنبهه المأمون على هذه الآية وقال: يا عم قد أجابك بأبلغ جواب. فخزي إبراهيم واستحيا، وكان إبراهيم لم يحفظ الآية أو ذهب عنه حالة الحكاية. والبيتوتة هو أن يدرك الليل نمت أو لم تنم، وهو خلاف الظلول وبجيلة وأزد السراة يقولون: بيات وسائر العرب يقولون: يبيت، ولما ذكر حالهم بالنهار بأنهم يتصرفون أحسن تصرف ذكر حالهم بالليل والظاهر أنه يعنى إحياء الليل بالصلاة أو أكثره. وقيل: من قرأ شيئاً من القرآن بالليل في صلاة فقد بات ساجداً وقائماً. وقيل: هما الركعتان بعد المغرب، والركعتان بعد العشاء. وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية. وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة. وقدم السجود وإن كان متأخراً في الفعل لأجل الفواصل، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله. وقرأ أبو البرهثيم: سجوداً على وزن قعوداً. ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء. قال ابن عباس: {غراماً} فظيعاً وجيعاً. وقال الخدري: لازماً ملحّاً دائماً. قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنّم. وقال السدّي: شديداً. وأنشدوا على أن {غراماً} لازماً قوله الشاعر وهو بشر بن أبي حاتم: ويوم اليسار ويوم الجفار *** كانا عذاباً وكانا غراماً وقال الأعشى: إن يعاقب يكن غراماً *** وإن يعط جزيلاً فإنه لا يبالي وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذاناً بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم. و{ساءت} احتمل أن يكون بمعنى بئست. والمخصوص بالذم محذوف وفي {ساءت} ضمير مبهم ويتعين أن يكون {مستقراً ومقاماً} تمييز. والتقدير {ساءت مستقراً ومقاماً} هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبراً لأن. ويجوز أن يكون {ساءت} بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفاً أي ساءتهم. والفاعل ضمير جهنم وجاز في {مستقراً ومقاماً} أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر. والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولاً لزوم عذابها، وثانياً مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان. وقيل: هما مترادفان، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم. وقيل: هو من كلام الله، ويظهر أن قوله {ومقاماً} معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان. وقيل: المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار. وقرأت فرقة {ومَقاماً} بفتح الميم أي مكان قيام، والجمهور بالضم أي مكان إقامة. {لم يسرفوا} ولم يقتروا. قال أبو عبد الرحمن الجيلي: الإنفاق في غير طاعة إسراف، والإمساك عن طاعة إقتار. وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد. وسمع رجل رجلاً يقول: لا خير في الإسراف فقال: لا إسراف في الخير. وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك. وقال النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول: الناس قد أسرف. وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعاماً للّذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين السيئتين. ثم تلا الآية. والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف. وعن أنس في سنن ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته» وقال الشاعر: ولا تغل في شيء من الأمر واقتصد *** كلا طرفي قصد الأمور ذميم وقال آخر إذا المرء أعطى نفسه كلما اشتهت *** ولم ينهها تاقت إلى كل باطل وساقت إليه الإثم والعار بالذي *** دعته إليه من حلاوة عاجل وقال حاتم إذا أنت قد أعطيت بطنك سؤله *** وفرج نالا منتهى الذم أجمعا وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم: يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق. وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعياً هنا. وقال أقتر إذا افتقر. ومنه {وعلى المقتر قدره} وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره: من اقتر بمعنى ضيق، والقوام الاعتدال بين الحالتين. وقرأ حسان بن عبد الرحمن {قواماً} بالكسر. فقيل: هما لغتان بمعنى واحد. وقيل: بالكسر ما يقام به الشيء يقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص. وقيل: {قواماً} بالكسر مبلغاً وسداداً وملاك حال، و{وبين ذلك} و{قواماً} يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر {كان} وأن يكون {بين} هو الخبر و{قواماً} حال مؤكدة، وأن يكون {قواماً} خبراً و{بين ذلك} إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف، وأن يكون حالاً من {قواماً} لأنه لو تأخر لكان صفة، وأجاز الفراء أن يكون {بين ذلك} اسم {كان} وبُني لإضافته إلى مبني كقوله {ومن خزي يومئذ} في قراءة من فتح الميم و{قواماً} الخبر. قال الزمخشري: وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة انتهى. وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله {ولا تجعل يدك مغلولة} الآية. {والذين لا يدعون} الآية سأل ابن مسعود رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أعظم؟ فقال: «أن تجعل لله نداً وهو خلقك» قال: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: ثم أي؟ قال: «أن تزاني حليلة جارك» فأنزل الله تصديقها {والذين لا يدعون} الآية. وقيل: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركون قد قتلوا فأكثروا وزنوا فأكثروا، فقالوا: إن الذين تقول وتدعو إليه لحسن، أو تخبرنا أن لما علمنا كفارة فنزلت إلى {غفوراً رحيماً}. وقيل: نزولها قصة وحشي في إسلامه في حديث طويل. قال الزمخشري: نفي هذه التقبيحات العظام عن الموصوفين بتلك الخلال العظيمة في الدين للتعريض بما كان عليه أعداء المؤمنين من قريش وغيرهم، كأنه قيل: والذين برأهم الله وطهرهم مما أنتم عليه. وقال ابن عطية: إخراج لعباده المؤمنين من صفات الكفرة في عبادتهم الأوثان وقتلهم النفس بوأد البنات وغير ذلك من الظلم والاغتيال والغارات وبالزنا الذي كان عندهم مباحاً انتهى. وتقدم تفسير نظير {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلاّ بالحق} في سورة الأنعام. وقرئ {يُلق} بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة وابن مسعود وأبو رجاء يلقى بألف، كان نوى حذف الضمة المقدرة على الألف فأقر الألف. والآثام في اللغة العقاب وهو جزاء الإثم. قال الشاعر: جزى الله ابن عروة حيث أمسى *** عقوق والعقوق له آثام أي حد وعقوبة وبه فسره قتادة وابن زيد. وقال عبد الله بن عمرو ومجاهد وعكرمة وابن جبير: آثام واد في جهنم هذا اسمه جعله الله عقاباً للكفرة. وقال أبو مسلم: الآثام الإثم، ومعناه {يلق} جزاء آثام، فأطلق اسم الشيء على جزائه. وقال الحسن: الآثام اسم من أسماء جهنم. وقيل: بئر فيها. وقيل: جبل. وقرأ ابن مسعود: يلق أياماً جمع يوم يعني شدائد. يقال: يوم ذو أيام لليوم العصيب. وذلك في قوله {ومن يفعل ذلك} يظهر أنه إشارة إلى المجموع من دعاء إله وقتل النفس بغير حق والزنا، فيكون التضعيف مرتباً على مجموع هذه المعاصي، ولا يلزم ذلك التضعيف على كل واحد منها. ولا شك أن عذاب الكفار يتفاوت بحسب جرائمهم. وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي {يُضاعف له العذاب} مبنياً للمفعول وبألف {ويخلد} مبنياً للفاعل. والحسن وأبو جعفر وابن كثير كذلك إلاّ أنهم شددوا العين وطرحوا الألف. وقرأ أبو جعفر أيضاً وشيبة وطلحة بن سليمان نضعف بالنون مضمومة وكسر العين مشددة {العذاب} نصب. وطلحة بن مصرف {يضاعف} بالياء مبنياً للفاعل {العذاب} نصب. وقرأ طلحة بن سليمان وتخلد بتاء الخطاب على الالتفات مرفوعاً أي وتخلد أيها الكافر. وقرأ أبو حيوة {ويُخلد} مبنياً للمفعول مشدد اللام مجزوماً. ورويت عن أبي عمرو وعنه كذلك مخففاً. وقرأ أبو بكر عن عاصم {يضاعف} {ويخلد} بالرفع عنهما وكذا ابن عامر والمفضل عن عاصم {يضاعف} {ويخلد} مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً. والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مرفوعاً مخففاً. والأعمش بضم الياء مبنياً للمفعول مشدداً مرفوعاً فالرفع على الاستئناف أو الحال والجزم على البدل من {يلق}. كما قال الشاعر: متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا *** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججاً والضمير في {فيه} عائد على العذاب، والظاهر أن توبة المسلم القاتل النفس بغير حق مقبولة خلافاً لابن عباس، وتقدم ذلك في النساء وتبديل سيئاتهم حسنات هو جعل أعمالهم بدل معاصيهم الأول طاعة ويكون ذلك سبب رحمة الله إياهم قاله ابن عباس. وابن جبير والحسن ومجاهد وقتادة وابن زيد وردوا على من قال هو في يوم القيامة. وقال الزجاج: السيئة بعينها لا تصير حسنة، ولكن السيئة تُمْحَى بالتوبة وتكتب الحسنة مع التوبة، والكافر يحبط عملة وتثبت عليه السيئات. وتأول ابن مسيب ومكحول أن ذلك يوم القيامة وهو بمعنى كرم العفو. وفي كتاب مسلم إن الله يبدل يوم القيامة لمن يريد المغفرة له من الموحدين بدل سيئات حسنات. وقالا تُمحى السيئة ويثبت بدلها حسنة. وقال القفال والقاضي: يبدل العقاب بالثواب فذكرهما وأراد ما يستحق بهما. {إلاّ من تاب} استثناء متصل من الجنس، ولا يظهر لأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه {يضاعف له العذاب} فيصير التقدير {إلاّ من تاب وعمل عملاً صالحاً} فلا يضاعف له العذاب. ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف فالأولى عندي أن يكون استثناء منقطعاً أي لكن من تاب وآمن عمل صالحاً {فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات} وإذا كان كذلك فلا يلقى عذاباً ألبتة و{سيئاتهم} هو المفعول الثاني، وهو أصله أن يكون مقيداً بحرف الجر أي بسيئاتهم. و{حسنات} هو المفعول الأول وهو المصرح كما قال تعالى {وبدلناهم بجنتيهم جنتين} وقال الشاعر: تضحك مني أخت ذات النحيين *** أبدلك لله بلون لونين سواد وجه وبياض عينين *** الظاهر أن {ومن تاب} أي أنشأ التوبة فإنه يتوب إلى الله أي يرجع إلى ثوابه وإحسانه. قال ابن عطية {ومن تاب} فإنه قد تمسك بأمر وئيق. كما تقول لمن يستحسن قوله في أمر: لقد قلت يا فلان قولاً فكذلك الآية معناها مدح المتاب، كأنه قال: فإنه يجد الفرج والمغفرة عظيماً. وقال الزمخشري: ومن يترك المعاصي ويندم عليها ويدخل في العمل الصالح فإن بذلك تائب إلى الله الذي يعرف حق التائبين، ويفعل بهم ما يستوجبون، والله يحب التوّابين ويحب المتطهرين. وقيل: من عزم على التوبة فإنه يتوب إلى الله فليبادر إليها ويتوجه بها إلى الله. وقيل {من تاب} من ذنوبه فإنه يتوب إلى من يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات. وقيل: {ومن تاب} استقام على التوبة فإنه يتوب إلى الله أي فهو التائب حقاً عند الله. {والذين لا يشهدون الزور} عاد إلى ذكر أوصاف {عباد الرحمن} والظاهر أن المعنى لا يشهدون بالزور أو شهادة الزور، قاله عليّ والباقر فهو من الشهادة. وقيل: المعنى لا يحضرون من المشاهدة والزور الشرك والصنم أو الكذب أو آلة الغناء أو أعياد النصارى. أو لعبة كانت في الجاهلية أو النوح أو مجالس يعاب فيها الصالحون، أقوال. فالشرك قاله الضحاك وابن زيد، والغناء قاله مجاهد، والكذب قاله ابن جريج. وفي الكشاف عن قتادة مجالس الباطل. وعن ابن الحنفية: اللهو والغناء. وعن مجاهد: أعياد المشركين و{اللغو} كل ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح. والمعنى {وإذا مروا} بأهل اللغو {مروا} معرضين عنهم مكرمين أنفسهم عن التوقف عليهم. والخوض معهم لقوله {وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه} انتهى. {بآيات ربهم} هي القرآن. {لم يخروا عليها صماً وعمياناً} النفي متوجه إلى القيد الذي هو صم وعميان لا للخرور الداخل عليه، وهذا الأكثر في لسان العرب أن النفي يتسلط على القيد، والمعنى أنهم إذا ذكروا بها أَكَبّوا عليها حرصاً على استماعها، وأقبلوا على المذكر بها بآذان واعية وأعين راعية، بخلاف غيرهم من المنافقين وأشباههم، فإنهم إذا ذكروا بها كانوا مكبين عليها مقبلين على من يذكر بها في ظاهر الأمر، وكانوا {صماً وعمياناً} حيث لا يعونها ولا يتبصرون ما فيها. قال ابن عطية: بل يكون خرورهم سجَّداً وبكياً كما تقول: لم يخرج زيد إلى الحرب جزعاً أي إنما خرج جريئاً معدماً، وكان المسمع المذكر قائم القناة قويم الأمر فإذا أعرض كان ذلك خروراً وهو السقوط على غير نظام وترتيب، وإن كان قد أشبه الذي يَخّر ساجداً لكن أصله أنه على غير ترتيب انتهى. وقال السدّي {لم يخروا} {صماً وعمياناً} هي صفة للكفار، وهي عبارة عن إعراضهم وجهدهم في ذلك. وقرن ذلك بقولك: قعد فلان يتمنى، وقام فلان يبكي، وأنت لم تقصد الإخبار بقعود ولا قيام وإنما هي توطئات في الكلام والعبارة. {قرة أعين} كناية عن السرور والفرح، وهو مأخوذ من القر وهو البرد. يقال: دمع السرور بارد، ودمع الحزن سخن، ويقال: أقر الله عينك، وأسخن الله عين العدو. وقال أبو تمام: فأما عيون العاشقين فأسخنت *** وأما عيون الشامتين فقرت وقيل: مأخوذ من القرار أي يقر النظر به ولا ينظر إلى غيره. وقال أبو عمرو: وقرة العين النوم أي آمناً لأن الأمن لا يأتي مع الخوف حكاه القفال، وقرة العين فيمن ذكروا رؤيتهم مطيعين لله قاله ابن عباس والحسن وحضرمي كانوا في أول الإسلام يهتدي الأب والابن كافر والزوج والزوجة كافرة، وكانت قرة عيونهم في إيمان أحبابهم. وقال ابن عباس: قرة عين الولدان تراه يكتب الفقه والظاهر أنهم دعوا بذلك ليجابوا في الدنيا فيسروا بهم. وقيل: سألوا أن يلحق الله بهم أولئك في الجنة ليتم لهم سرورهم انتهى. ويتضمن هذا القول الأول الذي هو في الدنيا لأن ذلك نتيجة إيمانهم في الدنيا. ومن الظاهر أنها لابتداء الغاية أي {هب لنا} من جهتهم ما تقربه عيوننا من طاعة وصلاح، وجوز أن تكون للبيان قاله الزمخشري قال: كأنه قيل {هب لنا} {قرة أعين} ثم بينت القرة وفسرت بقوله {من أزواجنا وذريتنا} ومعناه أن يجعلهم الله لهم قرة أعين من قولك: رأيت منك أسداً أي أنت أسد انتهى. وتقدم لنا أن {من} التي لبيان الجنس لا بد أن تتقدم المبين. ثم يأتي بمن البيانية وهذا على مذهب من أثبت أنها تكون لبيان الجنس. والصحيح أن هذا المعنى ليس بثابت لمن. وقرأ ابن عامر والحرميان وحفص وذرياتنا على الجمع وباقي السبعة وطلحة على الإفراد. وقرأ عبد الله وأبو الدرداء وأبو هريرة قرات على الجمع، والجمهور على الإفراد. ونكرت القرة لتنكير الأعين كأنه قال هب لنا منهم سروراً وفرحاً وجاء {أعين} بصيغة جمع القلة دون عيون الذي هو صيغة جمع الكثرة لأنه أريد أعين المتقين وهي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم قاله الزمخشري. وليس بجيد لأن أعين تنطلق على العشرة فما دونه من الجمع، والمتقون ليست أعينهم عشرة بل هي عيون كثيرة جداً وإن كانت عيونهم قليلة بالنسبة إلي عيون غيرهم فهي من الكثرة بحيث تفوت العد. وأفرد {إماماً} إما اكتفاء بالواحد عن الجمع، وحسنه كونه فاصلة ويدل على الجنس ولا لبس، وأما لأن المعنى واجعل كل واحد {إماماً} وإما أن يكون جمع آمّ كحال وحلال، وإما لاتحادهم واتفاق كلمتهم قالوا: واجعلنا إماماً واحداً دعوا الله أن يكونوا قدوة في الدين ولم يطلبوا الرئاسة قاله النخعي. وقيل: في الآية ما يدل على أن الرئاسة في الدين يجب أن تطلب. ونزلت في العشرة المبشَّرين بالجنة. {أولئك} إشارة إلى الموصوفين بهذه الصفات العشرة. و{الغرفة} اسم معرف بأل فيعم أي الغرف كما جاء {وهم في الغرفات آمنون} وهي العلالي. قال ابن عباس: وهي بيوت من زبرجد ودر وياقوت. وقيل {الغرفة} من أسماء الجنة. وقيل: السماء السابعة غرفة. وقيل: هي أعلى منازل الجنة. وقيل: المراد العلو في الدرجات والباء في {بما صبروا} للسبب. وقيل: للبدل أي بدل صبرهم كما قال: فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا *** أي فليت لي بدلهم قوماً ولم يذكر متعلق الصبر مخصصاً ليعم جميع متعلقاته. وقرأ الحسن وشيبة وأبو جعفر والحرميان وأبو عمرو وأبو بكر {ويُلَقّون} بضم الياء وفتح اللام والقاف مشددة. وقرأ طلحة ومحمد اليماني وباقي السبعة بفتح الياء وسكون اللام وتخفيف القاف. والتحية دعاء بالتعمير والسلام دعاء بالسلامة، أي تحييهم الملائكة أو يحيي بعضهم بعضاً. وقيل: يحيون بالتحف جمع لهم بينهم المنافع والتعظيم. {حسنت مستقراً ومقاماً} معادل لقوله في جهنم {ساءت مستقراً ومقاماً}. ولما وصف عباده العباد وعدد ما لهم من صالح الأعمال أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصرح للناس بأن لا اكتراث لهم عند ربهم إنما هو العبادة والدعاء في قوله {لولا دعاؤكم} هو العبادة والظاهر أن {ما} نفي أي ليس {يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} ويجوز أن تكون استفهامية فيها معنى النفي أي، أي عبء يعبأ بكم، و{دعاؤكم} مصدر أضيف إلى الفاعل أي لولا عبادتكم إياه أي لولا دعاؤكم وتضرعكم إليه أو ما يعبأ بتعذيبكم لولا دعاؤكم الأصنام آلهة. وقيل: أضيف إلى المفعول أي لولا دعاؤه إياكم إلى طاعته. والذي يظهر أن قوله {قل ما يعبأ بكم} خطاب لكفار قريش القائلين نسجد لما تأمرنا أي لا يحفل بكم ربي لولا تضرعكم إليه واستغاثتكم إياه في الشدائد. {فقد كذبتم} بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فتستحقون العقاب {فسوف يكون} العقاب وهو ما أنتجه تكذبيكم ونفس لهم في حلوله بلفظة {فسوف يكون لزاماً} أي لازماً لهم لا ينفكون منه. وقرأ عبد الله وابن عباس وابن الزبير: فقد كذب الكافرون وهو محمول على أنه تفسير لا قرآن، والأكثرون على أن اللزام هنا هو يوم بدر وهو قول ابن مسعود وأُبَيّ. وقيل: عذاب الآخرة. وقيل: الموت ولا يحمل على الموت المعتاد بل القتل ببدر. وقيل: التقدير {فسوف يكون} هو أي العذاب وقد صرح به من قرأ {فسوف يكون} العذاب {لزاماً} والوجه أن يترك اسم كان غير منطوق به بعدما علم أنه مما توعد به لأجل الإبهام وتناول ما لا يكتنهه الوصف. وعن ابن عباس {فسوف يكون} هو أي التكذيب {لزاماً} أي لازماً لكم لا تعطون توبة ذكره الزهراوي. قال الزمخشري: والخطاب إلى الناس على الإطلاق ومنهم مؤمنون عابدون ومكذبون عاصون، فخوطبوا بما وجد في جنسهم من العبادة والتكذيب {فقد كذبتم} يقول إذا أعلمتكم أن حكمي أني لا أعتد إلاّ بعبادتهم، فقد خالفتم بتكذيبكم حكمي فسوف يلزمكم أثر تكذيبكم حتى يكبكم في النار. ونظيره في الكلام أن يقول الملك لمن عصى عليه: إن من عادتي أن أحسن إلى من يطيعني ويتبع أمري، فقد عصيت فسوف ترى ما أحل بك بسبب عصيانك. وقرأ ابن جريج: فسوف تكون بتاء التأنيث أي فسوف تكون العاقبة، وقرأ الجمهور {لزاماً} بكسر اللام. وقرأ المنهال وأبان بن ثعلب وأبو السمال بفتحها مصدر يقول لزم لزوماً ولزاماً، مثل ثبت ثبوتاً وثباتاً. وأنشد أبو عبيدة عليّ كسر اللام لصخر الغي: فإما ينج من حتف أرض *** فقد لقيا حتوفهما لزاماً ونقل ابن خالويه عن أبي السمال أنه قرأ لزام على وزن حذام جعله مصدراً معدولاً عن اللزمة كفجار معدول عن الفجرة.
|